15 - 07 - 2025

في حضرة الكلمة الإلهية | أية النور وتجليات الإشراق الرباني

في حضرة الكلمة الإلهية | أية النور وتجليات الإشراق الرباني

* آية النور: تجلّيات الإشراق الربّاني في قلب الإنسان والكون 

**﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ ۚ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (النور: 35)

في هذه الآية الرفيعة التي تنبض بالنور والحياة، يرفعنا القرآن الكريم إلى ذروة من ذُرى البلاغة الربانية، حيث يجمع بين جلال الألوهية وجمال التجلي، بين حقيقة الإيمان وبديع التصوير. آية واحدة تسكب على القلوب سكينة، وعلى العقول نورًا، وعلى الأرواح سُموًّا.

الله جل وعلا يبدأ الآية بهذا التصريح المطلق: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، فهو الذي بنوره تُدرَك الحقائق، وبه تُهتدى النفوس، وبه يتجلّى معنى الوجود. ثم يقدم لنا مثلًا محسوسًا يداني المجرد، يشبه نور الله في قلب المؤمن بـ"مشكاة فيها مصباح"، وهذه المشكاة كوة صغيرة لا منفذ لها إلا من الأمام، يزداد الضوء تركيزًا فيها، مما يعكس نقاء الفطرة الإنسانية حين تستقبل هداية الوحي.

هذا المصباح موضوع في زجاجة شفافة، تكاد تضيء بذاتها من صفائها، ﴿الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾، وهنا قمة الجمال، فالنفس المؤمنة تبدو في إشراقها كأنها كوكب في علياء السماوات. ويُشعل هذا المصباح بزيت مستخرج من ﴿شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾، وهي شجرة نادرة تعرّضت للشمس من كل جانب، فكان زيتها من أصفى الزيوت. بل إن الزيت نفسه ﴿يَكَادُ يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾، في إشارة رمزية إلى الفطرة النقية التي تضيء قبل أن تصيبها شُعلة.

ثم تأتي ذروة الآية: ﴿نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ﴾، نور الفطرة مع نور الوحي، نور الإيمان مع نور العقل، نور القلب مع نور الهداية الربانية، كلها تتراكب وتتداخل لتشكل إشراقًا لا يضاهيه إشراق.

من الناحية البلاغية، الآية تمثل قمّة في الإعجاز البياني. الجملة الأولى اسمية لتعطي دلالة الثبات، و"نور على نور" من أبلغ ما قيل في التأكيد والتكثيف. تناغم الحروف، وتدرج الصور من المشكاة إلى المصباح فالزجاجة فالكوكب، كل ذلك يصنع هرمًا ضوئيًا يُبهر القارئ ويُطهر القلب.

أما من زاوية الإعجاز العلمي، فقد أثبتت الأبحاث الحديثة أن زيت الزيتون البكر من أنقى الزيوت، وأنه قد يُضيء بشفافيته من دون أن تلمسه نار مباشرة، وهو زيت قليل الدخان عند الاحتراق. بل إن تقنية المصباح داخل الزجاج تشبه تمامًا تركيبة مصابيح اليوم ذات الانعكاس الضوئي المركّز. وفي العمق العلمي، فإن القلب الإنساني نفسه يصدر إشارات كهروضوئية عند النبض، وكأن الله يودع فينا "نورًا خفيًّا".

تأمُّل هذه الآية يمنحنا دروسًا بالغة:

أن الإيمان ليس معلومات، بل نور في القلب، وهداية من الله.

أن الفطرة النقية هي وعاء النور، وهي التي تستحق الهداية.

أن الله يضرب الأمثال في القرآن ليوقظ العقول، ويحرك القلوب، ويعبر بالناس من المحسوس إلى المعقول.

أن الجمال في الكون، والإشراق في النفس، كلاهما من صنع الواحد الأحد، العليم الخبير.

وما هذه الآية إلا مرآة من نور، تعكس على المؤمن ذاته، وتدعوه أن يسأل:

هل في قلبي نور؟ وهل أزكي نفسي لأستحق نور الله؟

﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ﴾

اللهم اجعلنا منهم.
-----------------------
بقلم: خالد أحمد مصطفى


مقالات اخرى للكاتب

في حضرة الكلمة الإلهية | أية النور وتجليات الإشراق الرباني